إسرائيل بين مطرقة نتنياهو وسندان أمريكا- أزمة داخلية ومستقبل مجهول

يجمع الخبراء والمحللون الإسرائيليون على أن المذكرة التي قدمها رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، رونين بار، إلى المحكمة العليا، وما احتوت عليه من اتهامات لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ستزيد من حدة الأزمة الداخلية في إسرائيل وستؤثر بشكل مباشر على مسيرة المفاوضات الهادفة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
لا شك أن نتنياهو يمر اليوم بلحظة فارقة وحاسمة، وذلك بعد أن حصل في السابق على تفويض مطلق لتصعيد الحرب بهدف استعادة الأسرى وتحقيق أهداف عسكرية، ولكنه لم يتمكن فعليًا من تحقيق أي من هذه الأهداف.
لم يهدأ الشارع الإسرائيلي، ولم تتوقف الاحتجاجات الصاخبة المطالبة بدفع الحكومة نحو إبرام صفقة لتبادل الأسرى مع حركة حماس ووقف إطلاق النار، بالإضافة إلى حالات التمرد داخل المؤسسة العسكرية، والتي خلقت حالة من "التوتر" غير المسبوقة، بعد الرسالة العلنية التي نشرها نحو ألف من أفراد سلاح الجو الإسرائيلي في 10 أبريل/نيسان الجاري، والتي تدعو إلى إطلاق سراح الأسرى ووضع حد للحرب.
ممّا لا ريب فيه أن إسرائيل تشهد اهتزازات واضطرابات لم تعرفها الدولة العبرية في تاريخها، حيث وصل الأمر بزعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد إلى إطلاق تصريحات تحذيرية، يوم الأحد الموافق 20 أبريل/نيسان الجاري، أكد فيها بأن كارثة ستبدأ من داخل إسرائيل "نتيجة للتحريض المستمر"، محملًا رئيس جهاز الأمن المسؤولية عن "الفشل في معالجة هذه التحديات".
كما أشار لابيد إلى أنه "وفقًا لمعلومات استخباراتية، نحن على أعتاب كارثة وهذه المرة ستكون من الداخل". وإذا كانت جميع المؤشرات والمعطيات تشير إلى انهيار داخلي إسرائيلي وشيك، فلماذا لم يحدث ذلك حتى الآن؟
هناك العديد من العقبات التي تعترض استمرار حكومة نتنياهو، بالإضافة إلى الإشكاليات والتحديات التي تواجهها من الداخل والخارج على حد سواء. وقد تجلى ذلك بوضوح بعد استئناف عملياته العسكرية في قطاع غزة، حيث أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تصاعد الضغوط داخل الحكومة على رئيسها لاتخاذ قرار بشأن احتلال كامل قطاع غزة، وذلك في ظل مخاوف رئيس الأركان الجديد إيال زامير من التداعيات العسكرية المحتملة لمثل هذه الخطوة.
تشير معظم التقارير إلى أن إطالة أمد الحرب في المنطقة يصب في مصلحة نتنياهو، إذ يوفر له الحماية من الملاحقات القضائية في الملفات المشبوهة التي تحيط به. والجدير بالذكر أنه قد مثل في شهر مارس/آذار الماضي أمام المحكمة المركزية في تل أبيب للرد على اتهامات بالتورط في قضايا فساد ورشاوى.
لقد تكشفت بالفعل نوايا نتنياهو من خلال إفشال مسارات التفاوض واللجوء إلى الخيار العسكري. ولكن الأمر الذي لا يزال يكتنفه الغموض هو الموقف الأميركي المتساهل نسبيًا تجاه نتنياهو، ورفضه للمقترحات التي قدمتها واشنطن لحل الأزمة في المنطقة.
هذا التراخي واللين الأميركي تجاه نتنياهو، قابله تعامل صارم وصل إلى حد "الإهانة" بالنسبة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض عقب اجتماعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 28 فبراير/شباط الماضي.
لا يفوّت ترامب أي فرصة إلا وينتقد فيها زيلينسكي بشدة، بل وتجاوز ذلك في مواقفه، عندما عرض عليه يوم الأربعاء الموافق 23 أبريل/نيسان الجاري، ورقة "الذل" لإنهاء الحرب، مطالبًا إياه بالموافقة على التخلي عن شبه جزيرة القرم، من خلال اعتراف كييف بضمها إلى روسيا. ولم يقتصر الأمر على فرض الاستسلام على كييف، بل تعداه إلى المطالبة بالاستيلاء على الموارد الطبيعية النادرة في أوكرانيا. على الرغم من أن ترامب قد أطلق خلال حملاته الانتخابية مواقف حاسمة بشأن إنهاء حالة الحرب في كل من قطاع غزة وأوكرانيا.
ليست هناك مصالح حقيقية لأميركا في الحرب الدائرة في أوكرانيا، بل على العكس تمامًا، هناك مكاسب محتملة يمكنها استغلالها لخدمة سياساتها في منطقة الشرق الأوسط. ويسعى ترامب إلى إقامة علاقات ودية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، حيث يرى في التسوية الأوكرانية فرصة كبيرة لتحقيق أهداف تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
إن كل ما يصبو إليه الرئيس الأميركي هو أن تمارس روسيا المزيد من الضغوط على حليفتها إيران للتوصل إلى تسويات في المنطقة، بهدف تجنب شبح الحرب معها.
لقد كشف نتنياهو عن وجود "تهديد وجودي" يهدد إسرائيل بسبب التسوية التي تقودها أميركا مع إيران، ورفع من حدة خطابه تجاه إيران، معلنًا يوم الأربعاء الموافق 23 أبريل/نيسان، أن "إيران تمثل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل وخطرًا على مستقبلها"، ومؤكدًا عزم حكومته على مواصلة التصدي لما وصفه بـ "الخطر الإيراني" حتى لو اضطرت إسرائيل للتحرك بمفردها".
هذا الخطاب التصعيدي يحتاجه ترامب بشدة لاستغلاله في فرض شروطه في المفاوضات مع الجانب الإيراني. وبهذا تتضح المخططات التي تدبرها واشنطن في المنطقة، بعيدًا عن المخاوف والهواجس الإسرائيلية، مستغلة تهديدات نتنياهو تجاه إيران.
إن زيارة وزير الطاقة الأميركي كريس رايت إلى الرياض، يوم السبت الموافق 19 أبريل/نيسان الجاري، وإعلانه عن وجود "طريق مشتركة" لاتفاق نووي مدني مع السعودية، دليل قاطع على رؤية الإدارة الأميركية للمرحلة المقبلة في المنطقة، ومؤشر إضافي على أن النظرة الأميركية تختلف بشكل جوهري عن رؤية نتنياهو.
في سبعينيات القرن الماضي، قام نيكسون ووزير خارجيته آنذاك هنري كيسنجر بوضع أسس ما أُطلق عليه "سياسة الركيزتين"، والتي هدفت في ذلك الوقت إلى ضمان الاستقرار الإقليمي، وضمان تدفق النفط، وتقديم المساعدة المتبادلة للتصدي للنفوذ السوفياتي، بينما تتوجه هذه السياسة اليوم نحو مواجهة النفوذ الصيني.
لقد وقعت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة اتفاقية المادة 123 التي تناولها قانون الطاقة النووية الأميركي لعام 1954، والذي يسمح لواشنطن بنقل التكنولوجيا النووية إلى دول أخرى. وقد تهدف واشنطن من خلال هذا الاتفاق إلى خلق تقاربات إقليمية تعتمد على ركائز متنافسة، بدلًا من اللجوء إلى خيار الحروب المباشرة، الذي يحتاجه نتنياهو.
ليس صحيحًا أن يد نتنياهو مطلقة التصرف، بل الأصح هو أن لدى واشنطن حساباتها الخاصة في المنطقة، وأن نتنياهو أصبح أداة يتم تسييرها من قبل الإدارة الأميركية، التي تتصرف بما يتماشى مع مصالحها.
فنتنياهو يدمر غزة من أجل تحقيق مشروع الممر الاقتصادي الهندي، وبناء "ريفيرا الشرق"؛ تمهيدًا لفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأميركية، وتحديدًا في قطاعي الخدمات والسياحة.
لهذا السبب، لن يتخلى ترامب عن نتنياهو في المستقبل القريب، ولن يسمح للداخل الإسرائيلي بالتصرف بتهور والانزلاق نحو الانهيار، ما دامت المنطقة لم تُرسَم بعد وفقًا لما تريده واشنطن، وما دام النظام الدولي لم يحدد أطره العامة بشكل كامل.